وكان الرسول r قد أتقن العربية في بنى سعد وقومها بلغة قريش وأحاط بلهجات القبائل العربية ، إذ بقى أثره عميقاً في لغتنا هذه ، التي بلغت معارج الخلود ، يقول الأستاذ الباحث اللبناني حنا خير الله ، في احتفال بذكرى المولد النبوي :
( يكفى النبي العربي عظمة أنه خلد اللغة العربية وقدمها ، وأوجب على جميع أتباع دينه تعلمها إلى أن قال :
إننا نعظم ذكر من خلد لأمتنا أعظيم مجد وأشرف تاريخ وأسمى منزلة ، وحفظ لغتنا مقدمة إلى أبد الدهر ، لنبرهن على أننا نكرم محمداً - النبي العربي ، ونحتفل .بذكرى مولده المبارك ، إننا نقدر محمداً وأعمال محمد وعظمة محمد وغاية محمد ) .
وكان لفصاحة الرسول وبلاغته أن جعلت منه - إلى جانب ما تحلى به من مزايا أخرى - أعظم القادة والمصلحين الدينيين ، يقول صموئيل زويمر :
( إن نبي الإسلام كان ولا شك من أعظم القواد الدينيين ويصدق عليه القول أيضاً إنه كان مصلحاً قديراً وبليغاً فصيحاً وجندياً مغواراً ) .
ويقول الفيلسوف الفرنسي رنيه ديكارت (1597 - 1650 ) في كتابه مقالة "في المنهاج" معرباً عن إعجابه ببلاغة العربية وفصاحة الرسول وإعجاز القران :
( نحن والمسلمون في هذه الحياة ، ولكنهم يعملون بالرسالتين العيسوية والمحمدية، ونحن لا نعمل بالثانية ، ولو أنصفنا لكنا معهم جنباً إلى جنب ، لأن رسالتهم فيها ما يتلاءم مع كل زمان ، وصاحب شريعتهم محمد ، الذي عجز العرب عن مباراة قرآنه وفصاحته ، بل لم يأت التاريخ برجل هو أفصح منه لساناً ، وأبلغ منطقاً ، وأعظم منه خلقاً، وذلك دليل على ما يتمتع به نبي المسلمين من الصفات الحميدة التي أهلته لأن يكون نبياً في آخر حلقات الأنبياء ، ولان يعتنق دينه مئات الملايين من البشر » .
بلاغة المنطق و سداد الرأي
ويتحدث المستشرق الفرنسي سيلفستير ساسي ( 1758 - 1838 ) في كتابه "الحياة" عن محمد الرسول المفكر ، وصاحب الآراء السديدة النيرة ، و المبادىء الخيرة ، الذي عرف عنه :
(أنه بليغ في منطقه ، رشيد في رأيه ، نشيط في دعوته ) .
الفصل الخامس
محمد و القيادة العسكرية
العبقرية و الفداء
من خلال الدراسة التي استعرضنا فيها سيرة رسول الله ، عبر المواقف الاستشراقية ، ركزنا على نقاط هامة ، في حياة الرسول ، الشجاعة والصبر والثبات على العقيدة ، سواء تعلق الأمر بمواجهة مشركي قريش في مكة ، عند بدء الدعوة واضطهاد المسلمين الأوائل ، أو في العمل العظيم الذي اضطلع به وهو انتقاله من مكة إلى يثرب التي غدت المدينة ، فيما عرف بالهجرة التي عدها المستشرق الروماني ك . جيورجيو أعظم عمل فدائي قام به محمد r في سبيل الإسلام حين انفصم عن قبيلته فداء " لعقيدته " أو في القيادة العسكرية السياسية التي خاضها طوال مدة إقامته في المدينة ، فكان أن صارع قوى المشركين طوال عشرة أعوام صراعاً توج بانتشار الإسلام في ربوع جزيرة العرب . .
القائد العسكري اللامع والمشرع العظيم
وجدير بالذكر أن الرسول ، قبل أن يصدع بالرسالة لم يكن بالرجل المحارب بل شهر بالوداعة والهدوء، لكنه غدا القائد العسكري اللامع والمشرع العظيم حين عمل على نشر الدين الإسلامي ، يقول المستشرق القس دافيد بنجامين كلداني ، الذي اعتنق الإسلام وتسمى بـ عبد الأحد داود_ يقول في كتابه : « محمد في الكتاب المقدس » :
( وقبل أن يرسل الله محمداً بالدعوة إلى الإسلام وإزالة الوثنية ، الأمر الذي حققه بنجاح ، كان أهدأً وأصدق رجل في مكة . ولم يكن بالمحارب أو المشرع ، ولكن بعد أن تحمل رسالة النبوة ،أصبح أفصح المتكلمين وأشجع العرب ، وكان يحارب الكفار وسيفه في يده ، ليس لمصلحته الشخصية ، ولكن من أجل مجد الله ، وقضية دينه ، وهو الإسلام وقد عرض الله عليه مفاتيح كنوز الأرض ، ولكنه رفضها ، وعندما توفي كان فقيرا ) .
العبقرية العسكرية في وضع الخطط
لقد ظهرت عبقرية الرسول العسكرية في أخطر المعارك وأشدها هولاً ، أولاً معركة بدر ، حيث رتب قوى المسلمين بشكل مثلث ، وكان بوضع مكنه من جعل كل جندي مسلم أن يستقبل بمفرده العدو من غير استدبار حسب رأي جيورجيو( ) ، فحاز بفضل تلك العبقرية مع إيمان المسلمين العميق راية النصر ، وكانت بالتالي هزيمة جيش يفوق عدده ثلاثة أضعاف الجيش الإسلامي .
كما برزت عبقرية الرسول العسكرية في موقعة أحد، حين درس طبيعة الموقع العسكري ، وتنبه لمكمن الخطر، فكان أن وضع خطة مدروسة في تشكيل الصفوف المتكاملة المتراصة ، حتى لا يمكن للخصم أن يشق الصفوف ، مما مكن جيش المسلمين من مواجهة جيش العدو الذي يفوقه عددياً بأربعة أضعاف ، وكانت بشائر النصر مواكبة للمسلمين لولا الخطأ الذي ارتكبه النبالة مخالفو أوامر الرسول طمعاً في الغنام ..
النبوغ الفكري في استنباط الخطط و تنفيذها
كذلك برزت عبقرية الرسول العسكرية حين تبنى مشورة سلمان الفارسي بحفر الخندق في معركة الأحزاب ، هذه الخطة التي أثارت إعجاب الباحثين العسكريين في الشرق والغرب ، فالنبوغ العسكري _برأي جيورجيو_ ليس في استنباط الخطط وحسب ، بل في تنفيذها أيضاً ( ) . . .
ولا يغرب عن البال كيف برزت شخصية القائد العسكري للرسول في أحلك الظروف وخاصة في معركة حنين ، حين تمكن من تحويل الهزيمة إلى نصر ، ولقد حلل الباحث العسكري محمود الدرة ، هذه الواقعة بقوله :
( ليس في حياة قادة الجيوش مواقف عصيبة وخطرة كموقفهم من هزيمة جيوشهم في ميدان المعركة، وقلائل في التاريخ هم الذين استطاعوا بفضل شخصياتهم وعزائمهم وقف تيار الهزيمة في جنودهم والحيلولة دون وقوع الكارثة والخسران . والنادر فيهم من حول الهزيمة إلى نصر . أما محمد القائد وقد تحدثنا عن موقفه في معركة أحد وتحويله تيار المعركة من هزيمة منكرة إلى انسحاب ناجح نراه في هذا الموقف في أوج عظمته ومجده العسكري الخالد ، ولا نغالي إذا قلنا إنه بز من كان قبله في هذا المضمار ولم يشاركه في مجده هذا أحد قبله ، حيث لم يستسلم للأمر الواقع ولم تخذله نفسه كما خذلت قبله ، حيث لم يستسلم للأمر الواقع و لم تخذله نفسه كما خذلت اثني عشر ألفاً من جنده نفوسهم ) .
شخصية الرسول و تحويل الهزيمة إلى نصر
ويتفق جيورجيو مع محمود الدرة بالرأي حول الدور الذي لعبته شخصية الرسول ، في تحويل الهزيمة إلى نصر، والفرار إلى ثبات ، فتجمع فانتصار، بقوله :
(وقد كانت صلابة محمد r وجلادته سبباً في توقف المحاربين عن هربهم .. فكان أن انتهت معركة حنين بنصر المسلمين ) .
أعظم القادة الدينيين
ويتحدث المستشرق الكندي الدكتور زويمر ( 13 18 - 1900 ) في كتابه : "الشرق وعاداته" عن جماع صفات الرسول ، التي من أرزها القيادة والجرأة إلى جانب كونه رجل فكر وإصلاح ، يقول :
( أن محمداً كان ولا شك من أعظم القواد المسلمين الدينين ، ويصدق عليه القول أيضاً انه كان مصلحاً قديراً وبليغاً فصيحاً وجريئاً مغواراً ، ومفكراً عظيماً ، ولا يجوز أن ننسب إليه ما ينافي هذه الصفات ، وهذا قرآنه الذي عمر صدره ، تاريخه يشهدان بصحة هذا الادعاء ) .
الدروس العسكرية المستقاة من حروب الرسول
هذا ، ولقد استخلص الباحث العسكري محمود الدرة ، في كتابه معارك العرب الكبرى ، الدروس العسكرية في حروب الرسول r التي نضعها بنقاط محددة :
1. في تأليف وتنظيم الجيوش ، فكان الرسول r أول من عبأ معباً كاملاً في هذه الحرب الدفاعية لحماية الدعوة الإسلامية . .
2. في أسلوب القتال : وضع الخطط العسكرية المناسبة واستخدامه طبيعة أرض المعركة .
3. وضع مباديء جديدة للحرب ، منها أولاً المباغتة ، إذ يتحرك بكتمان وسرية وحذر ، ويستخدم أسلوب التورية . . وثانياً الاستطلاع وترصد حركة الخصوم . . وثالثا المقدرة على الحركة ، فقد أثبت جيش المسلمين قدرته على السير مسافات بعيدة بسرعة فائقة مع الصبر على شظف العيش ، واحتمال قسوة الطبيعة والمناخ . . .
4. التوفيق بين السياسة والحرب ، وذلك بعقده العهود والمحالفات مع القبائل العربية والاهتمام بالجبهة الداخلية ، لئلا يؤخذ المسلمون على حين غرة ، ولم يكن الرسول يكتفي بالنصر العسكري بل يسعى دائماً إلى تحقيق نصر سياسي في كسب الخصوم والأعداء . . .
5. استخدام سلاح الدعاية ، وخلق ما يسمى بالرتل أو الطابور الخامس في قلب الأعداء ، ولنذكر كلمة الرسول r في وصف هذا السلاح حين قال : "نصرت بالرعب مسيرة شهر " ، كما يؤكد خطورة أسلوب الدعاية تمهيداً لتحقيق النصر العسكري في ميادين القتال ، وإلى جانب الحرب الدعائية استخدام الرسول أيضاً ، الخدعة والتمويه ، وهو القائل "الحرب خدعة" ، وكذلك حرب الأعصاب لبلبلة صفوف الأعداء وإدخال الوهن في عزائم المحاربين ) .
هذا ، وإن المعارك العديدة التي خاضها الرسول بنفسه خلال عشرة أعوام والتي بلغت تسع عشرة غزوة ، وكذلك السرايا التي أنفذها ، قد أثبتت مكانته العسكرية ومزاياه القيادية حتى تمكن من تحقيق النصر العظيم ، ففي السنة التاسعة للهجرة كان محمد r حسب تقرير جيورجيو : « قد فتح الجزيرة العربية كلها ، وغدا الجميع مسلمين أو إلى جانب المسلمين ، وقد انتشر الإسلام من السنة الأول للهجرة إلى السنة العاشرة بمساحة قدرها 822 ألف كم تقريباً ) .
أن الإنجاز العظيم الذي حققه الرسول كقائد عسكري ومشرع ومناضل لمحو الوثنية من جزيرة العرب ، بله النصر العظيم الذي حققه في نشر الإسلام بسائر أرجاء الجزيرة العربية لم يكن سوى جانب واحد من جوانب عبقريته العسكرية ، إذ وضع كذلك أساس مجابهة الدولة البيزنطية ، حين قام بحملته العسكرية الأخيرة التي عرفت باسم غزوة تبوك ، وكان من نتائج ثمارها أن عقد الكثير من الأمراء العرب المسيحيين المتحالفين مع الدولة البيزنطية ، معاهدات معه " على عدم المهاجمة والحرب والوقوف على الحياد " . . . وليس هذا فقط بل صمم عملياً على غزو سورية وعقد لواء القيادة لأسامة بن زيد تنفيذاً لهذا الهدف قبل أن يلقى ربه بقليل .
يقول الباحث العسكري محمود الدرة :
( وهذا جيش أسامة بن زيد الذي أمر محمد r بتكوينه كان آخر عمل يقوم به في هذا السبيل _تقرير حرية الدعوة للعقيدة وتحرر العالم من عبودية الطغاة المستبدين _ ولم تنسه حتى سكرات الموت الأمر بإنفاذه والدعاء لقائده بالنصر لتحرير العرب من حكم المتعبدين ليخطوا بعد ذلك خطواتهم الحاسمة لتحطيم قوى الشر والعبودية التي كانت تخيم على العالم المعروف ) .
الفصل السادس
محمد الرسول والمعجزات
لقد ذكرت الدراسات التاريخية الإسلامية ، وخاصة كتب السيرة والحديث علامات النبوة وبشائر الرسالة ، نقلاً عن الرواة الأوائل الذين أكثروا من ذكرها ، تعظيماً لمكانة الرسول وإعلاء لقدر الرسالة . . . ولقد وقف عدد من الباحثين والمفكرين العرب والمستشرقين الغربيين موقفاً نقدنيا من مسألة علامات النبوة هذه . . .
يقول صاحب العبقريات عباس محمود العقاد في كتابه "عبقرية محمد" عن بشائر الرسالة :
( والمؤرخون يجهدون أقلامهم غاية الجهد في استقصاء بشائر الرسالة المحمدية . . يسردون ما أكده الرواة منها وما لم يؤكدوه وما قبله الثقات منها وما لم يقبلوه ، وما أيدته الحوادث أو ناقضته ، وما وافقته العلوم الحديثة أو عارضته ، ويتفرقون في الرأي والهوى بين تفسير الإيمان وتفسير العيان ، وتفسير المعرفة وتفسير الجهالة ، فهل يستطيعون أن يختلفوا لحظة واحدة في آثار تلك البشائر التي سبقت الميلاد حين ظهرت الدعوة واستفاض أمر الإسلام ؟ لا موضع هنا لاختلاف . . فما من بشائرة قط من تلك البشائر كان لها أثر في إقناع أحد بالرسالة يوم صدع النبي بالرسالة ، أو كان ثبوت الإسلام متوقفا عليها .
لأن الذين شهدوا العلامات المزعومة يوم الميلاد ، لم يعرفوا يومئذ مغزاها ومؤداها ، ولا عرفوا أنها علامة على شيء أو على رسالة ستأتي بعد أربعين سنة . ولأن الذين سمعوا بالدعوة وأصاخوا للرسالة بعد البشائر بأربعين سنة ، لم يشهدوا بشائرة واحدة منها ولم يحتاجوا إلى شهودها ليؤمنوا بصدق ما سمعوه واحتاجوا إليه .
وقد ولد مع النبي عليه السلام ، أطفال كثيرون في مشارق الأرض ومغاربها ، فإذا جاز للمصدق أن ينسبها إلى مولده جاز للمكابر أن ينسبها إلى مولد غيره . ولم تفصل الحوادث بالحق بين المصدقين والمكابرين إلا بعد عشرات السنين ... يوم تأتي الدعوة بالآيات والبراهين غنية عن شهادة الشاهدين وإنكار المنكرين .
أما العلامة التي لا التباس فيا ولا سبيل إلى إنكارها فهي علامة الكون وعلامة التاريخ .
قالت حوادث الكون : لقد كانت الدنيا في حاجة إلى رسالة .
وقالت حقائق التاريخ : لقد كان محمد هو صاحب تلك الرسالة ...
و لا كلمة لقائل بعد علامة الكون و علامة التاريخ ) .
معجزات الرسول في المنجزات الحقيقية
إلا أن المعجزة الحية الباقية حتى يومنا هذا هي إنجازات الرسول التي كانت عملياً ضرباً من ضروب الخوارق الإنسانية حين أخرج العرب من ظلمات الجاهلية إلى حضارة الإسلام التي تشع بأنوار المدينة التي هيهات أن تنطفيء ، يقول الشاعر اللبناني الكبير بشائرة الخوري (1885 _1968 ) الكبير بالأخطل الصغير في صحيفة البرق متحدثاً عن الإصلاح الديني الاجتماعي للرسول :
( أن للرسول محمد في عنفوان شبابه من المعجزات ما يقف دونه الفكر صاغراً ، ولكن له وهو في أيام الدعوة ما تصغر عنده عظمة العظيم ، ويبطل عنده سحر الساحر ، إنه وقد أخرج أمة بأسرها من ظلمات الجاهلية إلى أضواء المدنية ، إنه وقد أبدل معائب الجاهلية بمحاسن الإسلام ، و إنه وقد أبطل وأد البنات ، وحرم الزنى ، ونقى القلوب من العداوات ، إنه وقد أذل لسيفه كل سيف ، ولعرشه كل عرش ، إنه وهو كذلك ليس في عيني أعظم منه ، وهو الابن الناشيء فقيراً ، الدارج يتيماً ، الحامل السعد في وجهه ، والطمر في قلبه ، والأمل في عينيه ، والحكمة في شفتيه ) .
القرآن معجزة الرسول الخالدة
هذا ، ولقد اتفق العلماء والعرب والستشرقون الغربيرن على أن القرآن هو المعجزة الحقة للرسول : يقول المستشرق الإنكليزي بوسورث اسمث (1815-1892) في مقدمة كتابه : « الأدب في آسيا » :
(أن المعجزة الخالدة التي أداها محمد هي القرآن والحقيقة إنها لكذلك ، وإذا قدرنا ظروف العمر الذي عاش فيه ، واحترام أتباعه إياه احتراماً لا حد له ، ووازناه بآباء الكنيسة أو بقديس القرون الوسطي ، تبين لنا أن أعظم ما هو معجز في محمد نبي المسلمين أنه لم يدع القدرة على الإتيان بالمعجزات وما قال شيئاً إلا فعله وشاهده منه في الحال أتباعه ، ولم ينسب إليه الصحابة معجزات لم يأتها أو أنكروا مبدأ صدورها منه ، فأي برهان أقطع من ذلك ، ولقد كان محمد يذهب من آخر حياته كما ذهب من مبدأ أمره إلى أنه رسول الله حقاً ، وإني أعتقد أن الفلسفة المسيحية المالية ستعترف له بذلك يوماً من الأيام ) .
بداهة الرسالة
ويتحدث المستشرق الفرنسي الفونس آتيين دينيه ( 1861 _ 1929 ) عن حياة الرسول r الحافلة بالعظام ، بأنه _عليه السلام _ لم يعتمد في نشر الرسالة الاسلامية على الخوارق و المعجزات المادية و تلك مأثرة عظيمة له ، يقول في كتابه : "محمد رسول الله" :
( والحق أنا نرى من بين جميع الأنبياء الذين أسسوا ديانات ، أن محمداً هو الوحيد الذي استطاع أن يستغني عن مدد الخوارق والمعجزات المادية ، معتمداً فقط على بداهة رسالته ووضوحها ، وعلى بلاغة القرآن الإلهية ، وإن في استغناء محمد عن مدد الخوارق والمعجزات لأكبر معجزة على الإطلاق ) .
حقيقة مآثر الرسول
ويتابع الكبير الفرنسي في دراسة شخصية الرسول r مبرزاً عظمته وكمالاته العليا ، يقول :
( إن في مرأى المؤمنين وفي أعمالهم لصورة تلمحها منعكسة من مآثر محمد ، وإذا ما كانت بالطبع باهتة قياساً إلى كمالاته العليا ، فإنها لا جدال في صحتها ، هذا على حين نجد قياصرة روما مع دقة تماثيلهم لا يطالعنا منهم سوى قناع مزيف لوجوههم الجامدة تحت صورة من الخيلاء ، أن صورهم تظل ميتة يعجز خيالنا عن أن يلمح لها شيئاً من الحياة ، وإنه لبوحي هذه الحقيقة المقررة أن قامت برؤوسنا فكرة نشر لوحات في تاريخ محمد هذا ، تمثل المآثر الدينية لأتباعه ، وبعض صور من حياة محمد ، وبعض مدن الحجاز الذي هو وطنه ) .
المعجزات بين الحقيقة التاريخية و المآثر الشعبية
ويتناول المستشرق جوستاف جرونيباوم مؤلف كتاب : « حضارة الإسلام » ، القصص التي نسجتها المخيلة الشعبية والدوافع التي كانت وراء تلك القصص التي هي مستلهمة من الأعمال العظيمة والخارقة والحقيقية في حياته . . يقول جرونيباوم :
( إن انطواء حياة الرجل العظيم على قدر من الشرارة الإلهية أقوى بأساً مما لدى إخوانه الضعفاء لآية حافلة بالمعاني للعالم كافة !
ذلك أن رسالته تؤذن ببدء مرحلة جديدة في قصة هذا العالم .
ولا شك أن القوى التي يفك أسارها ستكون رهن إشارته ، وستكون أهم أدوار مقامه في هذه الأرض موضع الترحاب أو المحاكاة من العالم الذي كان مجرد ظهوره فيه ذا أثر في خطه ومجراه !
وإن القلوب الساذجة العقل لتروح تنسج الخوارق وشياً تحيط به حياة الرجل العظيم، غافلة عن أن هذه الخوارق تغض من شأن النصر الإنساني الذي يحرزه بطلها ) .
ويذكر جرونيباوم أن الرسول كان حريصاً على التأكيد بأنه بشر صدع بأمر من الله لنشر رسالة الإسلام ، يقول :
( حرص محمد مدة رسالته على أن يؤكد للناس أنه بشر، ذو طبيعة إنسانية وأنه بفضل من الله اختير رسولاً وr تعالى . .
وفيها عدا هذه الخصوصية _خصوصية اختياره للرسالة _ ليس ثمة شيء يفرق بينه وبين إخوانه من البشر .
وإن علمه بالغيب لمحدود بما يريد الله أن يعلمه إياه .
فكل ما لم يرشده إليه الوحي فأمر قد يضل فيه السبيل .